قائدٌ حرّكَ الونوش فماذا عن الوحوش؟

محطات نيوز- (المصدر:ليبانون ديبايت- روني ألفا)

شاهدت بأم العين الزيّ المرقّط يلملم ركاماً بيروتياً تفوح منه رائحة الكرامة. جنود بلادي يجوبون الشوارع الحزينة يكنّسون أوجاعنا ويحملون المؤن ويسلّمونها إلى المواطنين .
ينظّفون وسخ السياسة. يساعدون العُجَّز والمرضى. يروون العِطاش ويُطعِمون الجِياع. يأوون الناس الطيبين ولو داخل بيوتٍ مِن قُبَل وأسرّةٍ من عَطف. قدرُ الجيش اللبناني أن يبقى واحِداً مِنّا. لؤلؤةٌ نظيفةٌ تغارُ منها بؤرةُ فساد سياسي متّسِخة. أصدّقُ عندما أسمعُ أن الجندي يتألم لشعبه. أصدّقُ دمعته وصرخته التي تعاني حنجرته الأمرّين من أجل حبسِها. الجيوش لا تحرسُ الأنظمة فحسب. تحرسُ الناس أيضاً لأنهم مداميك الأنظمة. من دون الشعب يصبح النظام مهما عَتى أشبَهُ بهرم خوفو. إهرامات فيها فراعنة محنّطينَ.

الجيش مشروع شهادة كل يوم. ليس لديه أي ضمانة بالرجوع الى بيته عند هبوط المساء. يعود الجندي شهيداً أو مبللاً بالتعب. في انفجار بيروت امتزجت شهادة العسكر بشهادة فوج الإطفاء والدفاع المدني والعمال والموظفين والمؤسسات الأمنية والمواطنين العُزّل. الناس. الناس الذين خرجوا من شرفات نوافذهم في الرابع من آب ليغسلوا عيونهم بلون البحر ومشاوير السفن. بغمضة عين غسلوا حياتهم بماء الموت. لم يتسنَّ لهم أن يتفوّهوا بكلمة حب واحدة. غادروا كما تغيب الشمس غطساً في بحرنا المالح من شدة الحزن. ارتدى الشهداء اللون الأحمر واستقلّوا سفينة الرحلة الأطوَل. الجيش اللبناني بكى معهم. بكى عليهم. تقتضي أوامره أن يواجه الموتَ برجولةٍ وبِحَبسِ الدمع. كيف له ألا يبكي على شَيْءٍ منه؟ كل ضحية سقطت في الرابع من آب توازي يداً مبتورة ورِجلاً مقطوعة من عسكري. دموع الجنود بلا محارم. يمسحونها بأكمامهم المرقطة ويكملون التنقيب.

تذوبُ الأسماء في نيترات النسيان. رمادُ الزعماء تشطُفه الذاكرة. وحده الجيش مؤسسة مضادة للكَنس. رأيتهم يحملون المكانس مع شعبهم وينظفون البقايا. في صحون مكانسهم قليل من حياتنا التي تركناها في بيوتِنا قبل الإنفجار. حملَ الجنودُ ضحكاتنا وهناء عيشتنا في مكانسهم كأنهم يحملونها في قلوبهم. مثلنا هم. ينتظرون فَرَج آخِر الشهر وهمومَ المدرسة وقسطَ الجامعة وثمنَ الدواء. يعيشون على الوجبة الناشفة نهاراً وعلى الهموم المبلولة ليلاً. الفرق بيننا وبينهم أنهم يبكون من مطرة المياه وفوهة البندقية. يقولون في عيونهم للناس المتعبين: نحن متعبون. يقولون للناس المتألمين: نحن متألمون. في شوارع العاصمة الحزينة خلع الجنود تعبهم. علّقوه على أطراف أسرّتهم في ثكناتهم. اقتلعوا ألَمَهُم. اعتصروه في الصّبر واعتصموا به.

لا نيأسنَّ مِن الصباحات الحلوة التي تنتظرنا. فَلنَبنِ مؤسسات شبيهة بالجيش. خارجه عبادة آلهة. داخله عبادة الله. خارجه قوالب حلوى . داخله وجبات ناشفة. كل شيء يدعو إلى اعتبار الجيش صخرة تأسيسية. يا بطرس أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعَتي. من قبّة الصخرة المقدسية وصخرة بطرس تتشكّل صخرة الجيش. لا أمونيوم ولا نيترات ولا ذباب بشري قادر على تفتيتها. يجب الإحتماء بفيئها من حرارة الأفكار الشاذة. مِن المشهد الذي قدّمه الجنود في بيروت بعد الكارثة تيقّنا كَمْ يشبِهنا جيشُنا. كَم يستأهل أن نلقي رؤوسنا المتعبة على صدره. كَمْ يستأهل أن نتقاسم معه منقوشة الصباح وسندويشة المساء وأحلام نومنا المتقطع.

من مرفأ بيروت المدمّر حضَر قائد الجيش نهار أمس فترأس اجتماعاً بجدول أعمال من نقطة وحيدة: سنصدّر إيمان وإرادة حياة من المرفأ ونستورد كرامة واعتراف العالم بلبنان. كانت هذه الكلمات كافية لتزويد الوطن بلقاح ضدّ غَطيطٍ مَرَضي مُزمِن. كلام قائد الجيش سمعته السفن. انحنت له الونوش فعسى تنحني له الوحوش.

اضف رد

إضغط هنا

أحدث المقالات