نظرية “العجّة” – كريستيان بلّان الخاروف

محطات نيوز – كريستيان بلّان الخاروف

يقف فيك الزّمن على صورة الوالدة وهي في المطبخ تحضّر “العجة” ولا تقبل إلا وأن يكون شكلها متساويا وجميلا للعين، برّاقة، منتعشة! فبرأي أمّي ليست رائحة الطّعام ما يشد المرء ويحرّك شهيّته وإنّما شكل الطّعام حين تقع عليه العين! فالارتباط وثيق بين الرّائحة والشّكل! فهاتين الحاسّتين تفتحان الباب لحاسّة التّذوّق لتدخل اللّعبة فتلزم هي الأخرى حاسّة اللّمس بالانخراط في العمل! إذ لا بدّ لك أن تشعر بملمس “العجّة” المنزلق بين أصابعك؛ ذاك الملمس الطّريّ ما بين القساوة واللّين؛ ما بين الجمود والإرتخاء! فتعطي حاسّة اللّمس، بمؤازرة حاستيّ النّظر والشّمّ، الإشارة للتذوّق بضرورة خوض التّجربة وعدم الاكتفاء بالرّغبة والوقوف على الحياد! إذ لا بدّ من الغوص في الحدث بكافّة عناصره وبتفعيل كافّة الحواس للخروج منه بشعور عارم من الفرح. فتسمع وأنت تمضغ اللّقمة، نبضات قلب أمّك تتسارع غبطة، سعيدة بتفاعلك مع اللّحظة.

وأنت، كذلك سعيد أنّك لم تمنع نفسك من الشّعور بمحبّة من أخذ عناء تجهيزه لك مادّة تنشّط حواسّك وتدفعك للانغماس في تجربة شخصيّة. ومن ثمّ يغمرك ذلك الشّعور بالرّغبة بالمزيد والمزيد طالما تستطيع ولكنّك تأخذ قرار التّوقّف والاحتفاظ باحساس الفرح بدل تخطّيه والشّعور بالذّنب والنّدم لأنّك حيّدت الموضوعيّة عن، الفعل والإحساس؛ وأعطيت لرغبتك القدرة عليك فترسم حدود سلوكك على الرّغم من امتلاكك لحقّ اختيار قراراتك.

فتتوقّف لتدور بنظرك حولك ليستقرّ على الوالدة جنب النّار تعدّ المزيد من “العجّة”! فيتوقّف كذلك الزّمن، لتتنشّق، ليست رائحة الطّعام ما شدّك إلى المطبخ، للنّظر أو اللّمس أو التّذوّق، ولا حتّى سماع نبضات قلب من يحبّك في كلّ لقمة؛ وإنّما ما حفّزك هو ما تنشّقته من صبر في عمليّة تحضير “العجّة”؛ ما قبل أن توضع على النار حتّى الاستواء؛ ما حفّزك هو ما لمست من تأنّ والتزام في إنجاز كلّ قطعة فإخراجها تحفة فنيّة تغمر العين بتكامل الخليط المفعم بالألوان؛ ما حفّزك هو صوت استقرار المزيج على لوح المقلاة وهو يتفاعل مع كميّة الزّيت المعتدلة الضّروريّة لبلوغ النّضوج؛ ما شدّك لدخول غرفة العمليّات هو شعورك أنّك معنيّ بما يحصل بطريقة أو بأخرى؛ وقطعة بعد قطعة تنساب على الصّحن الزّجاجي وكل منها مجبول بالصّبر، وكمّ من المحبّة لا يقاس بمقاييس عاديّة وإنّما بمقابلة الصّبر بالتّقدير، ومبادلة المحبّة بالمحبّة!

ويلتصق المشهد برأسك فيستوقفك حتّى تدرك أنّ الحياة بنوعيّتها وأنّك لست بمفردك في هذا العالم، هناك آخرون خارج مطبخ الوالدة ولكن في البيت نفسه؛ وخارج البيت ولكن في المجتمع المحيط بك؛ ولربّما لا بل لأكيد أنك جزء من الحياة! ولست وحدك. ولو كانت أعداد القطع كثيرة على مائدة الدنّيا، وهناك المزيد والمزيد بعد يجهّز! وإنّما لست وحدك المدعوّ.

وتأتي قبلة على جبينك لتعيد لك الزّمن، قبلة ملؤها الفخر والعزّة بقرارك عدم سلب الآخرين حقّهم بخوض تجاربهم الخاصّة؛ وأنّك ولو استطعت لن تكون من يحرمهم انجازاتهم؛ وأنّك ولو تمكّنت لن تسرق فرصهم؛ وإنّك ولو … لن تكون …. ولن تكون…

أنت اخترت، قرارك أن تكون قطعة “عجّة”.

اضف رد

إضغط هنا

أحدث المقالات