محطات نيوز – إنّ صدور الطبعة الثانية لديوان “جمالي في الصور” الصادر عن دار العين للشاعرة والتشكيلية ميسون صقر القاسمي بعد أشهر قليلة من صدور الطبعة الأولى لخير دليل على تميّز وتفرّد هذا الديوان شكلا ومضمونا.
فبين الكلمة والصورة مسافات وأهوال رصدت الشاعرة نورها والتقفت نارها وبعثتها جمالا استثنائيا يكشف تنوّع ونضج التجربة الفنّية ككلّ عند ميسون صقر وليس التجربة الشعرية فحسب، فابتداء من الغلاف – من تصميم الشاعرة – وصولا إلى القصائد تنطلق لعبة الشاعرة في ترويض القصيدة( السيطرة على عوالم القسوة و الحيرة) وترويض القارئ بما هو قارئ غير عادي يعيش واقعا مضطربا (الثورة والرفض)
حيث تقدّم رؤيتها للذات ورؤيتها للعالم دون ان تكون رؤية منغلقة على ماهية محددة أو تعريف محدد، بل تفتح الباب للقارئ ليتخيّل، ليؤثّث، ليشطب، ليتصوّر ويصوّر، ليبكي ليضحك، ليثور ويتحرّك، ليجمد ويسكن، ليلامس السماء ويلامس العدم…
نتورّط نحن كقرّاء لكنها هي كمبدعة تحلّق بعيدا وتعلن على مهل فكّ الارتباط وتحرير القصيدة من مأزقها التاريخي ووهمها الأكبر.
فالقصائد الـ 127 المبثوثة في الستّة أقسام لا تعلن عن نفسها كحاملة للحقيقة ولا تدّعي الإجابة عن أسئلة القضيّة:
فالشاعرة من خلال هذا الديوان تتمسّك بالشعر كذات لا كموضوع.
ككيان حيّ… لا يحتمل التكلّف والاصطناع . فالقصيدة غدت مع ميسون حالة !
فالشاعرة تمتلك أدوات الكتابة العصرية وتتقن خيوط اللعبة:
فهي تقف في الطرف الآخر من النصّ : من باب “عالقة في الرفّ الأخير”” ظلّ الصورة”: “هنا جلس على الكرسيّ/ هنا تنزّه وضحك/ مرآة الغرفة الأولى التقطت صورا له بملابس مختلفة/ مرآة الغرفة الثانية ظلّت صورته فيها/ هنا كانت صورته تتكاثر/ ظلّ ظِلّ الصورة يتحرّك/ لم يختبر رحيقها حين خرج/ ظلّ صوته يتردّد هنا/ المكان يشلّ حركة المفاصل/ في ذروة الحبّ”.
إذا وكما نرى تتحوّل القصيدة إلى حدث درامي مستقلّ بذاته يثير القارئ ويدفعه إلى التفكير أو التخيّل… يفتح أمامه آفاق شاسعة من التأمّلات والتصوّرات ليدخل بدوره ملكوت الشاعرة ويمتلك ملكوت النصّ!
“خذ ما تشاء” “خذ ما تشاء واترك ما تشاء/ فإنّك مسحور بما تأخذ، مرصود لما تترك”.
فإذا كان شرط اكتمال الشعر هو الصورة! فشرط اكتمال الصورة لدى الشاعرة هي الذاكرة بشقّيها الفردي والجماعي، القريبة والبعيدة:
فالشعر من هذا المنطلق يخرج من ملاجئ الذاكرة ومخابئ الذكرى ليدخل فضاءات أوسع من الاحتمالات ومن الأمنيات.
فجائت قصائد تؤرّخ للميادين وتحتفي بالحرّية عبر “عيون تتبعني في المنام” ثمّ تبشّر بثورة التفاصيل والغوص في جمال الروح “الغياب جاء” وتحتجّ احتجاجا جماليا يعرّي الماهية ويقتفي تضاريسها ويسلك طريق المقامات والحلول، طريق السالكين و”العابرين إلى الرؤية”.
لتعود إلى الإنسان وذاكرته المحدثة ليمسك بها ويتمسّك بها فتحتفي بالآخر، بالإنسان في “لا مرارة بيننا” ثمّ توغل في الوصف وتنساب معها سردية أخّاذة ترصد تفاصيل اللّحظة ونتوءات التجربة في “عالقة في الرفّ الأخير”.
ثمّ تتوّج الديوان بالانكباب على الذات والاحتفاء بها في “جمالي في الصور”.
“عيون تتبعني في المنام”
“مقلة الشكّ” : “يدي تنهش الأخبار/ عيني تدور في مقلة الشكّ/ أنتظر المدينة من أعلى قطعة شطرنج/ العالم يوم تمرّغ في الدم/ انسكب منّا لحظة…لحظة/ كعجوز تخطو نحو حتفها”
ثم: “الغياب جاء”:”عالم في الكرتون”
“كلّما نظرت إلى مشاجراتنا الصغيرة أقول/ لا يمكن أن أظلّ في عالم من الكرتون/ كلّما هممت أن أضغظ عليه كي يتهشّم/ وجَدتُ روحا بحجم نملة تتنفّس داخله. فانتظر.”
إذا ليست محاولة جذب النصّ للصورة أو العكس: بل هو تلاقح فطري يصبح عبره حضور الصورة في النصّ وتزاوجها مسارا طبيعيا له.
إذا لسنا أمام نصّ تقليدي ولا أمام شاعرة تقليدية فحضور الفنانة التي تكتسب نظرة فنّية شاملة ساعد النصّ على أن ينسج طريقه الخاص والاستثنائي.
من هنا وجب علينا الانتباه وعدم تناول النصّ في بعده الجمالي فحسب فاستثمار الصورة وثباتها وديمومتها لم تخدم الجانب الاستيتيقي فحسب وإنما ساعد على رسم ملامح التجربة من ناحية بنيوية وأخرى مضمونية.
فجدلية الغموض والوضوح وثنائية التجريد والواقعية وتماثل الرمز و الإشارة والمجاز والاستعارة وغيرها كالتكثيف و الإيحاء …أعطت للنصّ القدرة على ابتداع نظام دلالي خاص داخل هذه المنظومة الجمالية أعطى بدوره الشاعرة إمكانية استعراض مكتسباتها التقنية المتطوّرة: كلعبة المونتاج، الفلاش باك، التركيب.مما أفسح أمامها الطريق لدخول عوالم سريالية ساحرة تدل على مدى حرفية الشاعرة “في لا مرارة بيننا”
” قرب وبعد/ ألمح يدك تسيل على الورق/ أسير مُخَالفَة/ لمسار القرب والبعد.”
فالنصّ إذا لا يشكّل الذاكرة فحسب بل يوكل للفنّ إعادة قراءتها: “الغياب جاء”
“بأصابع عاشقة”/ تجلس على مقعد/ ترتشف قهوتها/ تكتب على ورقة بيضاء/ بقلم أسود/ هكذا يكون الوصف باهتا/ كصورة في برواز/ معلّق على حوائط الرغبة/ كأيقونة لا لحم ولا دم/ لصورة أكثر أمنا/ أما حين يتعلّق الوصف بالسر/ بين رشفة وحركة الحروف/ على طبقة الروح/ مع شخص غامض مستوعب / سائر في سيلان عروقها/يكون الوصف بان/تجلس على المقعد/قدماها وتدا مرمر/ترتشف قهوتها/بشغف شفتين للقبلات/تكتب على نبضها /بقلم تحف به أصابع عاشقة/لكنها لا تعرف كيف تكتب /كلمة احبك/دون حضور الجسد.”
ولاستجلاء هذه السمات والمميّزات أردت التركيز على “جمالي في الصور” القسم الأخير حيث هيمن ضمير المتكلّم على هذه القصائد. فكأننا بهذه القصائد خطاب الشاعرة عن ذاتها. فـ”أنا الملكة” و”باب عمري” و”تموّجات الروح” و”السر عالق” و”قدمي” و”لا أريد” و”هوني في الألم”…
كأننا بهذه القصائد شطحها الخاص موسيقاها الشخصية كأننا بالشاعرة تماهت مع القصيدة الحالة حد التوحد والبوح : فجاءت قصائد احتفائية حتّى وإن كشفت عن حالة حزن وضياع وارتباك ووحدة حتى وان لامست أماكن قصية في شخصية الشاعرة إلا أنها أعلنت الانتصار رغم الانكسار …
“أطلّ على نفسي،
أطيل النظر
مغدورة كنت ولا أزال”
و من هذا المستوى نكتشف الجانب ألقيمي في ديوان جمالي في الصور فعبر هذه الرفعة والسمو في التعاطي مع قضايا الذات و الآخر وعبر النفس الحكمي الذي أرى انه مبثوث في كل القصائد تقريبا من هنا تجيء دعوة الشاعرة للحب والحلم إذ أرادت لنفسها أن تكون شاعرة حد الامتلاء و أرادت لقرائها أن يتورطوا في النص حد الحلم
“كوني ذرات وغيابي مجرّة”.
“أنا من أكون
وكوني لغيري”