قراءة في المبادرة الفرنسية- وجيه رافع

محطات نيوز-عُرف لبنان لعقود خلت بمؤسسات متمايزة في كافة المجالات،في التربية والتعليم، في الطب والاستشفاء،في السياحة والفن والمسرح، في قطاعه المصرفي،قضاءه كان ايقونة العدل العربي، جيشه لا يشبه جيوش المنطقة،العديد من هذه التمايزات سقطت او أُعطبت الواحدة تلو الأخرى،ولم يبقى منها الا قطعة واحدة وأخيرة:الجيش

بغض النظر عن الأسباب والمؤامرات التي حيكت من هنا وهناك،يبدو ان العامل الأساس في سقوط هذه المؤسسات،هي منظومة محترفة من الفساد والافساد سقط فيه الجميع،والملفت انه مع كل هذا السقوط وهذا الاهتراء، وقف النظام بمؤسساته وادواته عاجزاً مكبلاً غير قادر على فعل اي شيئ، بفعل الجدلية المعقدة بين شرعية حكمه الوطني ومشروعية حقيقته الطائفية،اقتنع الجميع حينها ان الدولة اللبنانية واقعة تحت المقولة الصينية المعروفة وهي: عندما تجد اللصوص يسيرون في الطرقات سالمين ويعيشون في قصورهم محميين، تيّقن ان النظام السياسي هو اللص الاكبر

ايقنت المجموعة الدولية ان النظام اللبناني دخل مرحلة متقدمة من العفن والتآكل،نظام عفا عليه الزمن،لم تعد تجدي معه الادوية واللقاحات،قرأ المجتمع الدولي الصورة بتمعن،وها هم مقتنعون جميعاً بضرورة نسف النظام،ولكنهم جميعاً مختلفين حول مفردة واحدة وهي: كيف؟ وما هي البدائل؟

اللافت ان خطورة “الكيف” هذه،ليست مجرد بحث او تفتيش عن عقد جديد بين اللبنانيين،خطورتها البعيدة قد تمتد الى إمكانية زوال الهوية والكيان، نظراً لارتباط هذه ” الكيف” عميقاً بدور البلاد المستقبلي في جيوبوليتيك الاقليم وفي عملية رسم الخرائط والكيانات على امتداد المشرق العربي

وصل الوضع الخطير الى عنق الزجاجة،يتمركز الخوف حالياً فيما اذا كان الفائض الجغرافي وفقاً لتوصيف كسينجر لدولة لبنان، قد تتحول قريباً الى نظرية الفائض البشري،كل شيئ وارد طالما يسكن البيت الأبيض شخصية هجومية وانفعالية: دونالد ترامب

لا يمكنني النظر الى عملية احتراق مرفأ بيروت،بغض النظر عن الحقيقة الغامضة لاسبابه،والصمت المدوي من قبل الجميع لظروفه وحيثياته،الا كاشارة واضحة ومعبرة لسقوط دور وفكرة وموت نظام، فهذا المرفأ الذي حوّله كبار التجار والصناعيون اللبنانيين منذ قرون، الى اهم نافذة تجارية بحرية،رُبطت من خلاله بيروت مع قارات العالم وجعلت من المدينة لؤلؤة عظيمة على المتوسط،وهو الذي ساهم ببلورة الفكرة الأولى للمقولة الشهيرة: ان لبنان هو صلة الوصل بين الشرق والغرب،مع احتراقه واخراجه من حلقة تمايزاته، سقط المرفأ وسقطت الفكرة،وبكل تأكيد: سقط النظام السياسي في البلاد، وليس من المستبعد بتاتاً ان تكون عملية ايصال قادة كبار، حمقى وفاسدين بدفع من قبل اذكياء وفاعلين الى مناصب كبيرة في الدولة سوى حلقة من حلقات مخطط هذا السقوط الكبير

في ظل التصارع الدولي والإقليمي حول هوية المظلة الجيوبوليتكية التي ستغطي الفائض الجغرافي،تمكنت المباحثات الدولية بين كل من اميركا وفرنسا وبريطانيا حول الوضع اللبناني  وبالتوافق مع ايران،والتي كان الفرنسيون على تواصل مستمر معها،من التوصل الى النقاط التالية:

١-توافق على حماية الجيش وتحييده ليتمكن من الاستمرار في وظيفته الوطنية الكبرى،ويُحكى في هذا الاطار عن شرط لحزب الله، يقضي بضرورة اخراج الجيش من دائرة التوظيف السياسي في البلاد، كما حصل على اثر احداث السابع من أيار الشهيرة

٢- التوافق على موت الطائف   دون اعلان وفاته نظراً لخروج سياقات هذا النظام عن طبيعة الواقع المعاش،وكذلك لاستحالة تنفيذه،اما سبب عدم اعلان الوفاة هو إمكانية اللجوء الى استخدام بعض مندرجاته كقطع غيار ضرورية لتمرير ملفات سياسية معينة

كُلف الفرنسيين بالملف،لكن سرعان ما بدت عليه الأمور،ان خارطة مبادرتهم معقدة وشائكة ويعتريها غياب النضوج الدولي العميق حولها،من الواضح ان موافقة الاميركيين عليها لم تكن سوى استقطاعاً للوقت في فترة انتخاباتهم الرئاسية

من خلال مواكبة الوقائع والمجريات التي تواكب المبادرة الفرنسية،يمكننا ملاحظة التالي:

– لا شيئ جاهز عند ايران لتقديمه لفرنسا سوى التعاون على استقرار البلاد،فعمق الملف الحقيقي مرتبط حصراً مع الاميركيين

-لا خسارة فرنسية حقيقية، كما يروج البعض،فيما لو فشل الرئيس الفرنسي في تحقيق خرق ما،ففرنسا العالمة بصعوبة الملف اللبناني وتعقيداته، ليست من الغباء بمكان لتضع نفسها بين فكي اميركا وايران،انما من الواضح،وبغض النظرعن النتائج،ان فرنسا قد حجزت لنفسها دائرة جيوبوليتكية أساسية على الساحل المتوسطي الجنوبي لشرق المتوسط برضى الاميركيين،ركيزتاها شارل ديغول وتوتال،وقد عرف ماكرون كيف يزاوج مقاربته ويخلطها مع مواقف عاطفية وثقافية في لبنان ضاربة في تاريخ علاقة فرنسا مع كيان الفائض الجغرافي

-ليس دقيقاً كل كلام، حول السعي الأميركي لعرقلة مبادرة الفرنسيين من خلال العقوبات،اذ ان هذه العقوبات تُفرض بتنسيق وتوافق مع الفرنسيين  بالتوقيت والاسماء، وذلك خلافاً لاية فكرة أخرى

-ليس من الصعوبة بمكان ملاحظة  وجود تغيير حقيقي لدى الاميركيين في نظرتهم ورؤيتهم الى الجيش،صقور الدائرة المحيطة بالخارجية الأميركية فرملوا ذاك الرهان، عادت نظريات الولاءات الممزقة والملزقة تلعب دورها في هذا المجال

في الخلاصة:ملف لبنان ما زال في بدايته بغض النظر عن إمكانية تشكيل حكومة ام لا، فالالغام المحيطة بالواقع الجيوسياسي ليست من النوع الكلاسيكي، انها عبارة عن الغام وافخاخ عنقودية،ففي كل ملف فخ، وفي كل فخ عنقود من الافخاخ،ومن الواضح والمؤكد ان لبنان الذي عرفناه، بدأ يوضب حقائبه ودفاتره القديمة،وهو يعيش الآن على فالق زلزالي وجودي،علّ وعسى ان تعود القادم من السنين،خيراً وبرداً وسلاماً عل جميع اللبنانيين دون استثناء

العميد وجيه رافع

اضف رد

إضغط هنا

أحدث المقالات