محطات نيوز – لا يمكنكَ بعد أن تقرأ كتاب ” ال م ن ش ق” عن حياة نيكوس كازانتزاكي بقلم إيليني كازانتزاكي (ترجمة محمد علي اليوسفي عن دار الآداب) أن تبقى في نفس الموقع الذي كنت فيه قبل مطالعته، هذا النيكوس الذي ترك لنا “المسيح يُصلبُ من جديد” و”الإغواء الكبير” و”الإخوة الأعداء” و”زوربا” و”تقرير إلى الغريكو” وغيرها من الأعمال الخالدة، يبدو من خلال هذا الكتاب كأنّه يتوالد في شخصيّاتٍ أخرى يتعرّى من جلده حتّى الرّوح مشبعٌ بالإرث الإغريقيّ المطعَّم بالرّؤى الإشراقيّة، متصوِّف أحسن الوقوع في شرك فيلسوفين عملاقين برغسون ونيتشه.
من رسالةٍ إلى أخرى يُعلن نيكوس عن انشقاقه عن كومة الموت الرّوتيني ليعيشَ في صومعة الحدس الإشراقيّ بطفولةٍ مذهلة، مفرداته اللغوية متفوّقة روحيًّا تبوح بخطٍّ عميق يسري كالدّم في الوريد ويجدلُ مساره في ثنائية الروح والجسد.
ألّفت هذا الكتاب إيليني كازانتزاكي وهي زوجة نيكوس الثانية، جمعت في رسائله ومذكَّراته وبعض نصوصه غير المنشورة، نجح هذا الكتاب في الكشف عن حقيقة نيكوس الرّائعة، وأكثر ما يُذهلُك في الكتاب هو علاقة نيكوس بالخالق هذه العلاقة التي تشبه حالة الحلوليّة، كان يصادق الله ويشاطره لحظات فرحه وقنوطه بغبطة طفوليّة نادرة.
على الرّغم من معاناته العميقة في هذا الكون وعلى الرّغم من شعوره بأنّ حتّى بلده الحبيب “اليونان” يضطهده كان دائمًا مصرًّا على التّطلّع نحو العدالة والحرّيّة في جزيرته كريت كما في أنحاء العالم، لطالما ردّد “سوف أموت وكتب كثيرة لا تزال في داخلي”.
عاشق الشرق هو، المسكون بالطيبة والشراسة في آن، المشبَع بلغة الأوديسة التي كرّسها كمشروعه الأهمّ والأعظم. هذا العابث الأزليّ، الهارب الأزلي من أهوال الحرب، الغارق في الكدّ، الممتلئ بشهوة السكينة الخلّاقة.
أما المدن والبلدان فله معها قصصٌ وروايات، علاقة نفسيّة تجمعه بها، علاقة تجاوزت كلّ الحواس لتفتح امامه الحدود الجغرافية فيتحوّل هذا الكون منزلاً له يبحث فيه عن أكثر زاوية هادئة حيث تستكين فيها الرّوح وتبوح.
يقول:” قبرص هي حقًّا وطن أفروديت، لم تسبق لي رؤية جزيرة أكثر أنوثةً منها، أو استنشاق هواء أكثر تشبّعًا بالشهوة الخطيرة، أشعر بالاسترخاء. وفي المساء عندما تغرب الشّمس،وتداعب النّسمات البحريّة المراكب الصّغيرة، وتخرج النّساء للتّنزّه على الشّاطىء، تسترخي روحي مثل أفروديت القديسة العاهرة. هنا تتغلغل فيك عذوبةٌ عميقةٌ، مثل رائعة الياسمين، ويداعب أذنك صوتٌ تُنصتُ إليه مبتهجًا: الفكر اندفاعٌ معاكسٌ لإرادة الحياة. توتّر الرّوح وإشباعها هما من أكبر الخطايا السلفيّة: كلوا، ناموا، أحبّوا، تجوّلوا على شاطئ البحر….”
لم يكن نيكوس سياسيًّا (على الرغم من أنّه كان وزيرًا في عام 1945 وشغل منصب مدير في اليونسكو قبل انسحابه للتّفرّغ لأعماله) على طراز ما نعرفه من السّياسيّين بل كان رادارًا روحيًّا يلتقط كلّ ما يجري يهضمه، يعيد صوغه باندفاع فنّان، تعيش فيه أرواح الإغريق القدامى، وترفده روح هوميروس بالورع المقدّس، عانق المسيح وبوذا ولينين وأوليس باحثًا عن الخلاص له وللإنسان.
حبّه لفكر نيتشه أشبع روحه بالثورة بالنار المقدّسة، وتعرّفه على الفرنسيّين أطلق جناحيه لهواء الحرّية، وتعلّقه ببرغسون أعطاه وعيًا ناقدًا وتواضعًا عارفًا، تمكّنه من الأساطير أعطى لرؤيته عمقًا إنسانيًّا شاملًا.
هذا الكتاب أصدقائي هو للمتذوّقين للمجانين للحالمين للمحقّقين، ومقالي هذا دعوة صريحة إلى كلّ من يعشق الغرق في هذه النكهات النيكوسية المضمّخة بعطر الأصالة البعيد كل البعد عن الجمود او السماجة اللغويّة. في هذا الكتاب ستكتشف في داخلك نيكوسًا صغيرًا غافيًا ينتظر الدّعوة إلى الاستيقاظ…