محطات نيوز – في البدء كان الفردُ ثمّ صار المجتمع، فالفرد يحمل في ذاته الخاصّة صيرورة المجتمع لأنّه يشكِّل وحدةً جوهريّةً في عمليّة بناء الصّرح الإجتماعيّ، وكلّ اضطرابٍ أو سلام، كلّ اضطهادٍ أو أمانٍ يختبره الأفرادُ لابدّ من أن ينعكسَ على حالة الكتلة المجتمعيّة. فالجزء يمثّل الكلّ والكلّ يمثّل الجزء.
وكما كان للمجتمعات حاجاتٌ متشعّبة في سبيل البقاء والاستمرار كذلك كان لها حاجاتٌ في إثبات وجودها وفق أساليب لا تنسجم بالضرورة مع مفهوم الغزوات والفتوحات والسيطرة الاستراتيجيّة أو السّياسيّة، فالمجتمعات حالةٌ حضاريّة متفاقمة في تطوّرها لأن النّفس الإنسانيّة حتّى ولو كانت منظّمة إلى حدّ ما، فهي تعاني من أزمات تتصادم فيها المبادىء والغرائز والقيم وتقتتل فيما بينها كما تتنازع المجتمعات والدّول تيّارات متنافرة في محاولة لإحكام السيطرة على الأوضاع القائمة. ومن الحاجات الّتي تستند إليها المجتمعات في وجودها واستمراريّتها الحاجة إلى بناء التراث الروحي والإجتماعي والثقافي بوساطة الثقافة والفنّ كالرّسم والموسيقى والمسرح والغناء والنحت والشعر ومن أنواع الفنون استخدام اللغة وتحديدًا الأدب.
لطالما عرّفوا الأدب بأنّه مرآةُ تعكس صورة المجتمع، كأنّ الأديب هو العصب النّاقل لتوتّرات المجتمع وتفاعلاتها في أدبه، بعضهم أيّد هذه الفكرة والبعض الآخر ذهب مذهبًا يقول بأن غاية الأدب أن يُبدع فقط من خلال وجوده، وكأنّ بالأدب يقعُ ضحيّةً بين أن يلتزم قضايا المجتمع والأمّة وبين أن يكون حرًّا طليقًا يعبّر فقط عمّا يعتمل في عمق ذاته بغضّ النّظر عن قضايا المجتمع الذي ينتمي الأديب إليه.
لا يُخفى على أحد منّا أنّ هذه المسألة قديمة العهد لا بل سحيقة في قدمها، ولكنّنا اليوم مهما حاولنا التّملّص منها نراها تعود إلى الواجهة أكثر حضورًا من ذي قبل. والإشكالية التي تُطرح هنا هي :”هل الأدب هو مجرّد وسيلة للتّعبير عن حالةٍ وجوديّة انفعاليّةٍ تختبرها الذّات ضمن واقعٍ محدّدٍ فتبوح بها في ديوان، أم أنّ هناك أدوارًا أخرى أكثر عمقًا وأبعد تأثيرًا تفجّرها الذّات في فعل إنجاز أدبٍ ما؟”
لقد عرّف علماء الاجتماع الإنسان بأنّه كائن اجتماعيّ ناطق (وقد أسقطتُ عن قصدٍ صفة الحيوان لأني لا اوافق عليها) كائن هو بفعل خضوعه للظرف البيولوجي، إجتماعيّ بفعل ميله الفطريّ إلى العيش في مجموعة أي مجتمع، ناطق لأنّه يوظّف اللغة في التعبير عن أحواله… هذا التعريف جميل لأنّه يضع الإصبع على موضع الألم، هل تكتبُ الذّات المبدعة لتفجِّر طاقتها فقط؟ هل يقدر الإنسان أن ينعزل عن إنسانيّته وقت الكتابة، أن ينعزل عن ذاته الصّغرى وعن ذاته العظمى؟
قال الإمام عليّ بن أبي طالب مرّة:
“وتحسبُ أنّكَ جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ”
هل تقدر الذّات الإنسانية أن تعبّرعن إشكاليّة وجودها بمعزل عن التأثيرات الخارجية والدّاخليّة للبيئة والعصر؟ هل يتعرّف المرء على ذاته، في المرتبة الأولى، خارجًا عن الآخر الذي يشكّل بالنسبة إليه فعل امتدادٍ فعل تحدٍّ وفعل اكتشاف؟ من هو الأمين الحريص على التّأسيس لتطوّر مجتمعٍ ما وانتقاله من مرحلةٍ إلى أخرى بشكلٍ سليمٍ؟ من هو المؤسّسُ لمفهوم النهضة أو الثورة أو حتّى الخنوع؟ لماذا تمنع بعض الكتب الأدبيّة في بعض المجتمعات؟ من هو الحافظ والمعدّل لسلّم القيم الإنسانيّة في المجتمعات؟ هل يؤدّي الأدب دورًا في ترسيخ القيم الإنسانيّة ضمن المجتمعات التي ينبثق من بعض أفرادها الثّائرين أو الموهوبين؟
إنّ القيم الإنسانيّة تُعتبر من الأولويّات لبناء مجتمعٍ قويّ ومتماسك قادر على تلبية اندفاع النّزعة الإنسانيّة عند الأفراد هذه النزعة الميّالة بطبيعتها نحو مشاعر الانتماء والأمان وتحقيق الذّات ضمن المجموعة، فالقيم هي القواعد المؤسّسة للمنظومة الأخلاقيّة المتكاملة التي دُوِّنَتْ بالأعمال الفلسفيّة والفنّيّة والأدبيّة العظمى.
القيم الإنسانيّة منهل الأمان بالنّسبة ألى الأمم، وقد حاولت الإنسانيّة تأطيرها في شرعة حقوق الإنسان غير أن ديناميّة الحفاظ على مويّتها عبر الزّمن لا يرتبط فقط بالتشريعات التي غالبًا ما تُزاح أمام المصالح والغايات بل ترتبط بالأخصّ بما يكتبه الأدباء لأنّهم يمثّلون ذاكرة المجتمعات التي ينتمون إليها، وذاكرة الوعي الجماعي للأوطان التي ينتسبون إليها، فهم من يحفظ الذّاكرة وينشّط التّفاعل الإنساني الثّقافيّ مع القضايا كافّة القضايا.
ماذا فعل جبران خليل جبران حتّى تبقى نصوصه الأدبيّة حتّى يومنا هذا؟ هل توقّف تأثيرأدبه ضمن العصر الذي عاش فيه، أم أنّه أسّس من حيث لم يقصد ولم يدر لتوجّهاتٍ قوميّةٍ وطنيّةٍ وحتّى حزبيّة؟ نقل جبران واقع الإقطاعية الدّينيّة والطّبقية في المجتمع اللّبناني في عصره لكنّه لم ينقلها من باب النّقل بل حمّلها كلّ ما كان مجتمعه يمضغه في السّرّ ويهاب أن يُعلنَه، في كتابيه “عرائس المروج” 1906 و”الأرواح المتمرّدة” 1908 تجرّأ جبران على إعلان حالة عصيانه أمام انهزاميّة مجتمعه في مواجهة شرّ التقاليد الموروثة وتحكّمها في سعادة الإنسان،وقف مع المظلوم ضد الظّالم، مع الجوهر ضدّ القشور، دعا إلى المحبّة المطلقة للإنسان إلى التّسامح إلى العطاء غير المبتذل!
تطاول جبران على شروط عصره، فمُنعت كتاباته في وطنه الأمّ ، واتُّهم بالكفر والإلحاد، لكنّه أدّى بمهارةٍ عاليةٍ وظيفةً اجتماعيّةً أخلاقيّةً من خلال كتاباته كسر بوساطتها تابو المعايير السّلبيّة التي كانت سائدة وأعلن عدم صلاحيّتها لأنّها لم تعد تتلاءم مع ظروف الوعي الحياتيّ.
ما لبث الكون أجمع أن أُبهر بالأدب الجبراني فترجمه إلى سبعِ لغاتٍ وتسرّب شيءٌ من الوعي والتقدير إلى مثقّفي وطنه لبنان فساهموا في إسقاط التّهم عنه وراحوا يدرّسون الإنتاج الجبرانيّ في المدارس والصّروح الجامعيّة.
أذكر جيّدًا، المرّة الأولى الّتي طالعتُ فيها كتابًا مهجورًا أصفر (وكنتُ في التاسعة من العمر) للأديب المصريّ إحسان عبد القدّوس فصُعقتُ به، وذهلتُ بما رأيتُ فيه من شخصيّات ووجوهٍ مأخوذةٍ من الواقع غير أنّه قام بتعريتها بشكلٍ مخيف أمام القرّاء، كان يتنقّل في رسمه لصورالشّخصيّات بين انطباع النّاس عن الشّخصيّة وبين ما يعتمل في عمق هذه الشخصيّة بجدارةٍ عالية توتّر المتلقّي وتضعه أمام إشكاليّة الأحكام المسبقة التي عوّده مجتمعه أن يبني على أساسها علاقاته مع الآخر.
ألم ينجح توفيق يوسف عوّاد في روايته “طواحين بيروت” في التّعبير عن حالة النّسيج الإجتماعيّ اللّبنانيّ سواء على الصّعيد الطائفي أم على الصّعيد الثّقافيّ؟ ألم تأخذ هذه الرّواية مسارًا بنيويًّا يسعى إلى الإصلاح والتّغيير؟ ألم يحاول أن يلقي الضّوء على فكرة تبنّي مشروع الدّولة المدنيّة غير الطّائفيّة؟ ذهب توفيق يوسف عوّاد إلى أبعد من ذلك لقد استشعر قدوم الحرب الأهليّة وقتها والإشكاليّة التي طرحها في الرّواية خير دليل على ذلك.بالإضافة إلى ذلك فقد أفلح نجيب محفوظ الثّائر الاجتماعيّ في كشف حالات الفصام الأخلاقيّة التي يعاني منها المجتمع العربيّ بين الشخصيّة المثاليّة في المجتمع والشخصيّة اللّاأخلاقية الماجنة السّريّةالتي عادة ما تكون مستترة تحت كومة التقاليد والأصول السّائدة…
وقعتُ منذُ فترةٍ وجيزةٍ على نصّ لغسّان تويني يتناول فيه إشكاليّة قيام الثّورة في الوطن العربيّ الذي ما زال يعيشُ في وهم الإفتراضيّات العنتريّة البعيدة كلّ البعد عن المبدأ البراغماتي للإنجاز الحقيقيّ ، يقول فيه: ” يثور الإنسان على نفسه على ما صنع. يثورُ ويجنُّ لأنّة، برغم ذلك، يريدُ أن يصنعَ أكثر.ولكنّ المأساة الحقيقيّة…هي أنّه يثور على ما صنعَ قبل أن يكونُ قد صنع الذي يثور عليه.نعم هكذا نثورُ على الجامعة، ونحن لم نصنع الجامعة، من حيثُ هي محرّك البحث والاختيار، وموئل الفكر الناقد الحرّ…نثور على القوّة، والقوّة عندنا لازالت جهادًا نستورده، ليست قدرةً حيّةً نستنبطها،كما هي مستنبطة في العالم…نثور على الحرب، نثور على السّلم، ثمّ نثور أخيرًا على الأنظمةوفي ظنّنا أنّ السّلطةَ آلةٌ لمن يأخذها…في حين أنّ الثوراتِ الحقيقيّةَ هي قيام شرعيّةٍ جديدةٍ مكان الشّرعيّة المقيمة، في توارثٍ تاريخيّ ليس هو لعبة بين القادرين والنّاس تتفرّج، بل هو على العكس توالدٌ شعبيٌّ مستمرٌّ لمثاليّاتٍ جديدةٍ، تتجاذبُ النّاس، تستهويها، تتقاسمها، تصارعها وتتصارع عبرها، صورٌ للمستقبل الواحد، تتسابق نحوه..”
لا ثورةَ إذًا بلا ثقافة البناء لأنه لا يحقُّ لك تدمير ما لا يمكنك إعادةَ بنائه على وجه أفضل وأجود وأروع ممّا كان قبل هدمه، ولا ثورة إذا كانت لا تنبع من قيم محدّدة ولا تهدف إلى تبنّي مثاليات قيمية حقيقيّة، لا ثورة بلا عطاء، بلا تعاطف، بلا محبّة…لا ثورة بلا مسؤوليّة!
اللّائحة تطول إذا شئنا أن نعرض لمن أثّرومازال يؤثّر حتّى هذه اللّحظة في بناء شبكة القيم الإنسانيّة والأخلاقية في المجتمع العربيّ، لكنّنا سنكتفي بهذا القدر.
في الختام إنّالإنسان العربي اليوم عالقٌ بين المحافظة على شخصيّته القوميّة التّقليديّة،التي تلزمه بما تلزمه من أحمالٍ حضاريّة ثقيلةٍ، وبين استقلال شخصيّته النهضويّة في مجتمعٍ أضحى يعاني – في معظم شرائحه -من انفصامٍ قيميّ مدقعٍ. هل من المعقول أن يفهم مثقّفووأدباء اليوم خطورة المهام الملقاة على عاتقهم في تأمين النّقلة الأخلاقيّة السّليمة لأمّة أضحت فاقدةً لهويّتها متشرذمةً بين تطوّر الغرب وجمود الشّرق؟ بين المختبرات الطّبّية والنصوص الدينيّة المنزلة؟ بين قدسيّة البكارة ومفهوم الحرّية الفرديّة؟ بين جرائم داعش وحقوق الإنسان؟ بين الفساد والحقّ في تغيير المسار والمصير؟ بين القدرية والاختيار؟ بين الاندثار وحق الحضارة علينا في تجديدها في إخصابها وفي نفض الغبارعنها؟؟؟…أما آنَ الأوان لإعادة ترسيخ المفاهيم الإنسانيّة العربيّة المبنيّة على التعاون والوعي والشجاعة والثّقافة؟ أما آن الأوان الذي نولّد فيه أجيالًا يفكّر أبناؤها كالقادة ويرفضون سياسة الثّغاء؟هل سنبقى نعاني التّبعيّة لنزوات الأنا ونضحّي بمسؤولية احتضان ونقل تراثنا الروحي والأدبي؟ كلّ هذا أطرحه برسم العقول المفكّرة والمربّية والمثقّفة…