إنتقلت ملكية المؤسسة إلى فرد جديد من أفراد المجتمع المخملي، ما يدعى: les nouveaux riches. بالترجمة الحرفية: الأغنياء الجدد؛ أي الذين أصابهم الغنى جراء صفقة رابحة أو عملية أدرت عليهم المال… فيدخلون على المجتمع بنظرة جديدة وبحلة جديدة يفرضون من خلال مالهم الجديد احتراما لم يكن ليحسب لهم سابقا كما تصبح لهم سلطة لم تكن مقدرة لهم أصلا. لا يهم فليكن …
إنتقلت ملكية المؤسسة وأصبحت بإدارة جديدة لمالكها فلان. لم يتفاجأ أحد من الموظفين والموظفات فالأمر كان محتّم، إذ أن المالك القديم لم يعد يرغب بإدارة مؤسسته وقرر الانسحاب من عالم الأعمال والتنافس والذهاب في رحلة مع عائلته حيث الهدوء والسكينة، حيث يمكنه زراعة الأرض بالألوان الزاهية. وتستجيب الأرض لتعبه وتعطيه في المقابل ثمنا لا يثمّن مما لم يكن ليحصل عليه لو تابع كونه في مرحلة ما من “الطبقة المخملية” صاحب المؤسسات والأعمال .
الكل كان ينتظر المالك الجديد؛ رئيس مجلس إدارة المؤسسة الجديد ليدعو إلى اجتماع الجسم العمّالي. لم يتأخّر الأمر. الرئيس، المالك الجديد، أراد إحكام قبضته على الجميع من البداية (فليفهم الجميع مدى جديته في إدارة مؤسسته).
راحت الإجتماعات تتوالى بدأً بالمستشارين ثم المدراء وصولا إلى أبسط العمّال وفرق التنظيف.
أما اليوم المنشود فهو يوم اجتماع فرع المندوبين في المؤسسة الكبيرة تلك . وقد كان مدير الفرع هذا يتمتع بشخصية فيها بعض سمات الغرابة . لم يكن محبوبا ولا مرغوبا، بل أمرا واقعا يتعامل معه العاملون بحذر وتنبه لما يفعلون أو يقولون خوفا من ردة فعل قاسية وحاقدة. رغم أنه عندما يهدأ، يعاملهم بلطف كبير وانصياع لآرائهم لكنه يحمل خلف مظهر البراءة ذاك مكرا واحتيالا؛ ما يكشف عنهما إلا في ساعات غضبه أو انزعاجه من أحدهم فيحول حياته إلى جحيم ويسبب له الاحباط والإنعزال…
كان الجميع يخشاه أو يتجنبه إلا سعيد الذي كان يدخل مكتبه دون استئذان ليجلس لساعة أو أكثر. يتسامران ويتبادلان الأخبار الشخصية والنصح . كان الحذر من سعيد ضرورة أيضا. هو والمدير على وئام واتفاق، والمدير لا يرفض له طلبا. كان العمال، من جهة أخرى، وإن أرادوا أمرا وخوفا من الرفض، يتجهون نحو سعيد بابتسامة عريضة طالبين منه التوسط لدى المدير. هذا الأخير لا يرفض له طلبا. أما إذا انزعجوا من سعيد لأن المدير سلطه عليهم، لا يتوانون عن طرق باب المكتب والدخول والشكوى علهم بذلك يكسرون تلك العلاقة الوطيدة ويفتحون ثغرة في جم الثقة التي يوليها المدير لسعيد لأمانته وخوفه على المؤسسة وحسن سير العمل …
يوم دعا المدير سعيد إلى مكتبه قبل الاجتماع بساعة، نبض قلب الجميع بالخوف مما قد يكون. فمتى اجتمع الإثنان لنقاش أمر ما، يصدر عنه عمل جدي ومتعب لا يرغب به أحد. أما وقد استغرق انفرادهما في المكتب الساعة كاملة، لم يعرف أحد فحو الكلام غير سعيد. طلب منه المدير وبكل جدية أن يشي بزملائه للمالك الرئيس الجديد ويطلعه عن تقاعصهم في أداء واجبهم، وإهمال بعضهم , وعدم التزام آخرين بالوقت المحدد… وأشياء وأشياء أخرى …
خرجا من المكتب قبل خمس دقائق فقط من وصول رئيس الإدارة الجديد إلى قاعة اجتماع المندوبين يحمل كل منهما دفتره وقلمه ,ووجهاهما مرسومان بجدية ما بعدها جدية. بالأخص وجه سعيد اتشح بالحزن والانكسار. هو يعلم لا بل هو على يقين أنه إن لم ينفذ أوامر الفرع فالعاقبة ستكون قاسية وردة الفعل لا ترحم. هو الذي اعتبر أن صداقة تربطه بالمدير بيد أن هذه المرة تعدت الصداقة كل الحدود وما يطلب منه تحت غطاء المونة والصداقة ليس إلا خيانة زملائه بغية الإطاحة بالبعض منهم ممن لا يروقون لمدير الفرع الذي وجدها فرصة لا تعوض. إن المالك الجديد يريد فرض إدارة جديدة فقرر الاستفادة من الوضع. أمّا سعيد وإن قرر المساهمة باللعبة الوسخة فسيكرهه زملاؤه حقّ الكره وسينبذ كالوباء…
بدأ الاجتماع ووزّع مالك النظام الجديد الشروط الملزمة لكل عامل ليبقى في عمله .في محاولة لإظهار وجهه الآخر قام مالك بدعوة منسوبيه إلى إبداء آرائهم وملاحظاتهم أو حتى نصائحهم لتحسين سير العمل وخلق الجوّ المناسب لانتاج إيجابي يدرّ على الجميع الأرباح ويحافظ على مصالحهم. اختلفت الآراء ودارت المشاورات الحذرة والمتحفّظة: فالكل خائف والكل متردّد لكن الكل دخل اللعبة… إلا سعيد فقد التزم الصّمت على غير عادته. وقد اغضب بموقفه هذا مدير الفرع وكسب عداوته فراح هذا الأخير يرمقه بنظرة حاقدة تجمل في طياتها تهديدا صارخا… وساد سكون غريب القاعة وراح الجميع يحدّق بسعيد والكل ثقة بجرأته وصراحته والكل خائف من إقدام سعيد على اقتراح جديد يتعبهم ويغرقهم في العمل كما جرت العادة حين يتكلّم… انفرج صدر مدير الفرع حين وقف سعيد ليدلي بكلمته…
فتح سعيد ملفه وأخرج منه أوراقه وفتحها وهمّ بالكلام فانقطعت الأنفاس ! وما كان من سعيد إلا أن قرأ وأمام الجميع نصّ استقالته .
وخرج !